المرء يُحدّد قيمة المال..
لايغيب ولا يخفى على أحدٍ ما أن الـمال هو عصبُ الزمان، ولطالما وجدناه وسيلتنا الأقوى ليس لمُجرد البقاء على قيد الحياة خشية الفقر أو الهلاك؛ بل وحتى للتعايُش، حتى تستطيع أن تلتحق بتعليم مُناسب، وظيفة مُناسبة، أن تكتسي بشكل جيّد، وحتى أن تكون في مستوى لاتقل فيه شأنًا عن أقرانك، أو محيطك المتلوّن!
جميعها أمور في ظاهرها روتينية وعادية، ولكن باطنها ينضح بالكُلفة، كُلفة المال، كُلفة القيمة، بل وحتى كُلفة التفكير في كيف من الممكن أن تحصل عليها بشكل لايؤثر على توازنك المالي طيلة أيام الشهر المُقبلة.. من هُنا نجد أن المال سلاح ذو حدّين، ونحنُ كبشر نُبصرهُ دائمًا بعين المستقبل على أنهُ محط رفاهيتنا ومُستراحنا، بل ووقودنا المنشود لكي نسلك دروبنا الطويلة بالتزوّد به.. ولكن هل تنبّهنا يومًا للجانب الآخر من المال؟ الجانب الذي يُدرك فيه الإنسان أنهُ يحمل بين يديه مايُشقيه، ومايُرهقه، وعلى غِرار أن يكون زينة الحياةُ الدنيا، يغدو بؤسها وضرّاءها! وعليه أجد أن المعضلة الحقيقية ليست في المال بحد ذاته، بل في كيفية تفاعُل المرء معاه!
لايُمكن يومًا ما أن نجد أن المال وحدهُ ساهم في تشتيت الأُسر، وتفكيكها، ووقوع جرائم الإختلاس والسرقة، وغيرها من الأمور التي يُمكن أن يكون المال هدفًا وجزءًا لايتجزأ من القيام بها.. ولكنهُ ليس المحرّك الأساسي لها، وهذا يجعلنا نُفكر في سلوك من يُدير هذا المال، هذه النعمة التي وصفها الله بأنها زينة الحياة الدُنيا، رغم أن المولى سبحانهُ قرن هذا الوصف بالدنيا فلم يُردفهُ إلى الآخرة؛ وذلك كونهُ متاعٌ زائل! وعليـه كان لابُد من التبصُّر فيما نملكهُ وليس فيما لانملكهُ، أن نتبصّر في قيمة مابين أيدينا، وأن ننظر إليه بعين الزوال لا عين البقاء، لطالما ألهت هذه الرؤية الضبابية العديد من الأشخاص، فتراهُ يشقى ويكدح في حياته بغية المال، بغية الترف، وطمعًا في الزيادة، وينسى نصيبهُ من الآخرة بل وحتى نصيبهُ من الدُنيا فيما يجب عليه من حقوق! السعي بلاشك واجب؛ وإن سعى العبد بورِك لهُ وسعى الله إليه، واليد العُليا خيرٌ من اليد السُفلى وهذا سعيٌ محمود، ولكن لاينبغي لهُ أن يغفلهُ عمّا حوله، وعمّا عليه من إلتزامات، وأن يغدو هذا السعي أشبه بـمُطاردة السراب، فيُصبح المال الغاية والهدف، وتُصبح الأهداف والحقوق هوامش! فتكون تلك الأُسرة الآسِرة الدافئة في قائمة الثانويات، وماخلّف الوالدين بعدهم من أُخوة ذات روابط مُحكمة-وهذا هو الميراث الحقيقي- يتلاشى في ظِل السعي خلف تقسيم الترِكة ومن لهُ النصيب الأكبر؛ رُغم عدالة الشريعة وصراحتها في التوزيع! ويغدو الشُركاء في خصومة طاحِنة وتحل الشراكات وتتأرجح الأرباح في دائرة النزاع والتصفية، فتغيب مفاهيم الأُلفة ويربى في كنفها الشِقاق والفُرقة، فترى ذلك المخلوق بعدما كان نُطفةً في قرارٍ مكين مُجادِلًا مُخاصِمًا في نقمةٍ قَصُرت رؤياه عن حقيقتها؛ مظنةً منهُ أنهُ بذلك يزيد فيُقرن زيادة النفس بزيادة المال، والأصل أنهُ بذلك ينقُص ويذل؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ وأرضاه “يَعزُّ غنيُّ النَفسِ إِن قلّ مالهُ ويَغنى غنيُّ المالِ وَهوَ ذليلٌ” ومن هذا المُنطلق نجد أن المرء هو من يُحدد قيمة المال؛ إن شاء جعلهُ محل هناءهُ ورخاءه، وان شاء جعلهُ محل ضيقهُ وكدره، والنِّعم لاتزول ولا تُبلى إلا بتغيُّر دوافع وأفعال أصحابها في مواجهتها كما قال سبحانهُ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهذا من تمام عدلهِ، ولذلك يجب على الإنسان أن يُحكّم عقلهُ دائمًا وأن يتنبّه ويتفطّن إلى مافضّل اللهُ بهِ عليه من النعم، وأن يُحسن تعاملها كما أحسن اللهُ إليه بها، وأن يدعوهُ الحكمة عند التعامل معها؛ حتى يكون في موضِع يستطيع معهُ أن يُنزل الأمور منازلها القويمة على النحو الذي لاتطغى معهُ مراتب الحقوق على بعضها البعض فيقع في التفريط؛ ويكُن بذلك أولى بالخسارة.
انتهى..
المستشارة القانونية / ريما بنت محمد الصاطي